سورة الحج - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحج)


        


{فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)}
قوله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها} أي أهلكنا أهلها. وقد مضى في آل عمران الكلام في كأين. {وَهِيَ ظالِمَةٌ} أي بالكفر. {فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها} تقدم في الكهف. {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} قال الزجاج: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} معطوف على {مِنْ قَرْيَةٍ} أي ومن أهل قرية ومن أهل بئر. والفراء يذهب إلى أن {وَبِئْرٍ} معطوف على {عُرُوشِها}.
وقال الأصمعي: سألت نافع بن أبى نعيم أيهمز البئر والذئب؟ فقال: إن كانت العرب تهمزهما فاهمزهما. وأكثر الرواة عن نافع بهمزهما، إلا ورشا فإن روايته عنه بغير همز فيهما، والأصل الهمز. ومعنى {مُعَطَّلَةٍ} متروكة، قاله الضحاك.
وقيل: خالية من أهلها لهلاكهم.
وقيل: غائرة الماء.
وقيل: معطلة من دلائها وأرشيتها، والمعنى متقارب. {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} قال قتادة والضحاك ومقاتل: رفيع طويل. قال غدى بن زيد:
شاده مرمرا وجلله كل *** سا فللطير في ذراه وكور
أي رفعه.
وقال سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومجاهد: مجصص، من الشيد وهو الجص. قال الراجز:
لا تحسبني وإن كنت امرأ غمرا *** كحينة الماء بين الطين والشيد
وقال امرؤ القيس:
ولا أطما إلا مشيدا بجندل ***
وقال ابن عباس: {مَشِيدٍ} أي حصين، وقاله الكلبي. وهو مفعل بمعنى مفعول كمبيع بمعنى مبيوع.
وقال الجوهري: والمشيد المعمول بالشيد. والشيد بالكسر: كل شيء طليت به الحائط من جص أو بلاط، وبالفتح المصدر. تقول: شاده يشيده شيدا جصصه. والمشيد بالتشديد المطول.
وقال الكسائي: {المشيد} للواحد، من قوله تعالى: {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ}، والمشيد للجمع، من قوله تعالى: {فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]. وفى الكلام مضمر محذوف تقديره: وقصر مشيد مثلها معطل. ويقال: إن هذه البئر والقصر بحضرموت معروفان، فالقصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى إليه بحال، والبئر في سفحه لا تقر الريح شيئا سقط فيه إلا أخرجته. وأصحاب القصور ملوك الحضر، وأصحاب الأبار ملوك البوادي، أي فأهلكنا هؤلاء وهؤلاء. وذكر الضحاك وغيره فيما ذكر الثعلبي وأبو بكر محمد بن الحسن المقرئ وغيرهما: أن البئر الرس، وكانت بعدن باليمن بحضرموت، في بلد يقال له حضوراء نزل بها أربعة آلاف ممن آمن بصالح، ونجوا من العذاب ومعهم صالح، فمات صالح فسمى المكان حضرموت، لان صالحا لما حضره مات فبنوا حضوراء وقعدوا على هذه البئر، وأمروا عليهم رجلا يقال له العلس بن جلاس بن سويد، فيما ذكر الغزنوي. الثعلبي: جلهس بن جلاس. وكان حسن السيرة فيهم عادلا عليهم، وجعلوا وزيره سنحاريب بن سوادة، فأقاموا دهرا وتناسلوا حتى كثروا، وكانت البئر تسقى المدينة كلها وباديتها وجميع ما فيها من الدواب والغنم والبقر وغير ذلك، لأنها كانت لها بكرات كثيرة منصوبة عليها، ورجال كثيرون موكلون بها، وأبازن بالنون من رخام وهى شبه الحياض كثيرة تملا للناس، وأخر للدواب، وأخر للبقر، وأخر للغنم. والقوام يسقون عليها بالليل والنهار يتداولون، ولم يكن لهم ماء غيرها. وطال عمر الملك الذي أمروه، فلما جاءه الموت طلى بدهن لتبقى صورته لا تتغير، وكذلك كانوا يفعلون إذا مات منهم الميت وكان ممن يكرم عليهم. فلما مات شق ذلك عليهم ورأوا أن أمرهم فسد، وضجوا جميعا بالبكاء، واغتنمها الشيطان منهم فدخل في جثة الملك بعد موته بأيام كثيرة، فكلمهم وقال: إنى لم أمت ولكن تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم، ففرحوا أشد الفرح وأمر خاصته أن يضربوا له حجابا بينه وبينهم ويكلمهم من ورائه لئلا يعرف الموت في صورته. فنصبوا صنما من وراء الحجاب لا يأكل ولا يشرب. وأخبرهم أنه لا يموت أبدا وأنه إلههم، فذلك كله يتكلم به الشيطان على لسانه، فصدق كثير منهم وارتاب بعضهم، وكان المؤمن المكذب منهم أقل من المصدق له، وكلما تكلم ناصح لهم زجر وقهر. فأصفقوا على عبادته، فبعث الله إليهم نبيا كان الوحى ينزل عليه في النوم دون اليقظة، كان اسمه حنظلة بن صفوان، فأعلمهم أن الصورة صنم لا روح له، وأن الشيطان قد أضلهم، وأن الله لا يتمثل بالخلق، وأن الملك لا يجوز أن يكون شريكا لله، ووعظهم ونصحهم وحذرهم سطوة ربهم ونقمته، فآذوه وعادوه وهو يتعهدهم بالموعظة ولا يغبهم بالنصيحة، حتى قتلوه في السوق وطرحوه في بئر، فعند ذلك أصابتهم النقمة، فباتوا شباعا رواء من الماء وأصبحوا والبئر قد غار ماؤها وتعطل رشاؤها، فصاحوا بأجمعهم وضج النساء والولدان، وضجت البهائم عطشا، حتى عمهم الموت وشملهم الهلاك، وخلفتهم في أرضهم السباع، وفى منازلهم الثعالب والضباع، وتبدلت جناتهم وأموالهم بالسدر وشوك العضاه والقتاد، فلا يسمع فيها إلا عزيف الجن وزئير الأسد، نعوذ بالله من سطواته، ومن الإصرار على ما يوجب نقماته. قال السهيلي. وأما القصر المشيد فقصر بناه شداد بن عاد بن إرم، لم يبن في الأرض مثله- فيما ذكروا وزعموا- وحاله أيضا كحال هذه البئر المذكورة في إيحاشه بعد الأنيس، وإقفاره بعد العمران، وإن أحدا لا يستطيع أن يدنو منه على أميال، لما يسمع فيه من عزيف الجن والأصوات المنكرة بعد النعيم والعيش الرغد وبهاء الملك وانتظام الأهل كالسلك فبادوا وما عادوا، فذكرهم الله تعالى في هذه الآية موعظة وعبرة وتذكرة، وذكرا وتحذيرا من مغبة المعصية وسوء عاقبة المخالفة، نعوذ بالله من ذلك ونستجير به من سوء المآل.
وقيل: إن الذي أهلكهم بخت نصر على ما تقدم في سورة الأنبياء في قوله: {وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ} [الأنبياء: 11]. فتعطلت بئرهم وخربت قصورهم.


{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)}
قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} يعني كفار مكة فيشاهدوا هذه القرى فيتعظوا، ويحذروا عقاب الله أن ينزل بهم كما نزل بمن قبلهم. {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها} أضاف العقل إلى القلب لأنه محله كما أن السمع محله الاذن. وقد قيل: إن العقل محله الدماغ، وروى عن أبى حنيفة، وما أراها عنه صحيحة. {فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ} قال الفراء: الهاء عماد، ويجوز أن يقال فإنه، وهى قراءة؟؟ عبد الله بن مسعود، والمعنى واحد، التذكير على الخبر، والتأنيث على الأبصار أو القصة، أي فإن الأبصار لا تعمى، أو فإن القصة. {لا تَعْمَى الْأَبْصارُ} أي أبصار العيون ثابتة لهم. {وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} أي عن درك الحق والاعتبار.
وقال قتادة: البصر الناظر جعل بلغة ومنفعة، والبصر النافع في القلب.
وقال مجاهد: لكل عين أربع أعين، يعني لكل إنسان أربع أعين: عينان في رأسه لدنياه، وعينان في قلبه لآخرته، فإن عميت عينا رأسه وأبصرت عينا قلبه فلم يضره عماه شيئا، وإن أبصرت عينا رأسه وعميت عينا قلبه فلم ينفعه نظره شيئا.
وقال قتادة وابن جبير: نزلت هذه الآية في ابن أم مكتوم الأعمى. قال ابن عباس ومقاتل: لما نزل: {ومن كان في هذه أعمى} [الاسراء: 72] قال ابن أم مكتوم: يا رسول الله، فأنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى؟ فنزلت: {فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. أي من كان في هذه أعمى بقلبه عن الإسلام فهو في الآخرة في النار.


{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)}
قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ} نزلت في النضر بن الحارث، وهو قوله: {فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ 70} [الأعراف: 70].
وقيل: نزلت في أبى جهل بن هشام، وهو قوله: {اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال: 32]. {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} أي في إنزال العذاب. قال الزجاج: استعجلوا العذاب فأعلمهم الله أنه لا يفوته شي، وقد نزل بهم في الدنيا يوم بدر.
قوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} قال ابن عباس ومجاهد: يعني من الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض. عكرمة: يعني من أيام الآخرة، أعلمهم الله إذ استعجلوه بالعذاب في أيام قصيرة أنه يأتيهم به في أيام طويلة. قال الفراء: هذا وعيد لهم بامتداد عذابهم في الآخرة، أي يوم من الأيام عذابهم في الآخرة ألف سنة.
وقيل: المعنى وإن يوما في الخوف والشدة في الآخرة كألف سنة من سنى الدنيا فيها خوف وشدة، وكذلك يوم النعيم قياسا. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: {مما يعدون} بالياء المثناة تحت، واختاره أبو عبيد لقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ}. والباقون بالتاء على الخطاب، واختاره أبو حاتم.

8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15